الخميس، 23 أبريل 2009

البدوي الثائر عبد الله القصيمي



قدم من الصحراء السعودية، من قلب الصحراء، كما يقول أنسي الحاج، نبت ضد الطبيعة. في الصحراء فجأة، وفيما الجميع لا يترقبون هناك أحدا. نبت كالشوكة، كالفاجعة. وحيث مشى في الصحراء صارت كل حبة رمل بطلة. وصار في الصحراء شجرة عظيمة.

إنه المفكر والكاتب عبد الله القصيمي القادم من الصحراء، والعائد اليها سرا بعد عمر أكثر من ثمانين سنة ليموت ميتة مجهولة، بعد نفي وتشرد ومطاردة في كل مكان ذهب اليه، حتى انه طرد من لبنان في الستينات يوم كان لبنان ملجأ
للهاربين من الانظمة، وكازينو للمغامرين، وعصابات المال والاحزاب، ووكرا للطائفية، ومرتعا للراقصات والمخابرات الدولية والعربية.

لبنان هذا ضاقت مساحته بهذا الصوت البدوي القادم من الصحراء، فقررت سلطاته في ذلك الوقت طرد القصيمي منه، لكن لبنان الاخر، لبنان أدو
نيس ويوسف الخال وانسي الحاج وغيرهم هم الذين حموا حفنة قيم ثقافية واخلاقية وسياسية من الهدر والابتذال وجنون الانتقام، رغم طرد القصيمي الى القاهرة.ولعل الموقف الخالد للراحل كمال جنبلاط الذي كان يومها وزيرا للداخلية هو احد المواقف التي تشهد على شجاعة المثقف والمفكر جنبلاط وانتصار رجل الحرية
على رجل البوليس. في الوقت الذي كانت شرطة الوزير جنبلاط تبحث عن القصيمي، كان جنبلاط المفكر والشاعر والمتصوف يجلس مع المفكر عبد الله القصيمي ويحاوره كشريك في الحرية وفي الكتابة وفي المصير.ويومها أطلق ادونيس نداءً شهيرا دعا فيه الكتاب والشعراء والمفكرين لكي يكونوا دروعا بشرية من اجل عبد الله القصيمي، سواء الذين يتفقون معه أو الذين لا يتفقون، لأن الحرية نفسها في خطر، ولأن عبد الله القصيمي هو اختبار لجدارة
الكتاب وامتحان لكل الذين يجعرون من اجل الحرية....وكتب يومها انسي الحاج محتجا بقوة قائلا:

" لم يفعل القصيمي شيئا. افكاره موضوعة في كتب، والكتب يجاوب عليها بكتب. معاملة الكاتب بالتدابير البوليسية تصرف جبان ".

هذا في منتصف الستينات حيث كانت لا تزال حفنة قيم ادبية وثقافية وسياسية باقية، ولا يعرف ، وربما يعرف انسي الحاج اليوم، ان هذه التدابير البوليسية التي كان يخجل منها رجال الشرطة العرب يومذاك، صارت في التقاليد الجديدة مفخرة، ومرجلة، وعقيدة الذين لا عقيدة ولا شرف ولا كرامة لهم.لكن من هو عبد الله القصيمي؟
من هو هذا الرجل الذي ملأ الصحراء العربية، حتى في شققها الاسمنتية، وعماراتها الحجرية التي هي تحوير للخيمة، وعاد الى بلده خلس
ة كما يعود لص في أعوامه الاخيرة ليموت كما تموت نباتات الصحراء بصمت وسكوت في براري الفجيعة والنفط والقواعد العسكرية؟

يذكر كتاب " لئلا يعود هارون الرشيد" الصادر عن دار الجمل، في مبادرة جريئة، ان القصيمي هو اول رجل دين وهابي نزع ثوبه الديني بعد ممارسة طويلة في الوهابية، ثم اعلن طلاقه منها مما عرض نفسه الى لعنة النظام ورجال الدين منذ عام 46 حتى وفاته سنة 95.ومنذ الخمسينات وحتى نهاية السبيعنات الف القصيمي كتبه العديدة والضخمة
ذات البعد الساخط على العالم، والتي استحق عنها حكم الاعدام الصادر بحقه غيابيا حتى وفاته الغامضة..

أهم هذه الكتب:
1 العالم ليس عقلا ـ 1964
2 أيها العقل، من رآك؟ 64
3 عاشق لعار التاريخ ـ 65
4 كبرياء التاريخ في مأزق ـ 66
5 هذا الكون ماضميره ؟ ـ 66
6 صحراء بلا أبعاد
7 فرعون يكتب سفر الخروج
8 العرب ظاهرة صوتية
9 ايها لعار المجد لك

وكتب عديدة اخرى.

في مقدمة الحوار الذي أجراه معه الشاعر والمفكر ادونيس في مجلة" لسان الحال ـ سنة 65" وتحت عنوان... الخرافة، الغباء، الطغيان، كتب أدونيس:















صورة الشاعر والمفكر ادونيس

" لا تستطيع أن تمسك به ـ بالقصيمي ـ فهو صراخ يقول كل شيء ولا يقول شيئا. يخاطب الجميع ولا يخاطب أحدا. انه الوجه والقفا: ثائر ومتلائم، ملتزم وغير ملتزم، بريء وفتاك. وانت عاجز عن وصفه. فهو بركان يتفجر، والحمم كلمات تحرق، لكن فيما تزرع العشب. فهو تيار جامح مهيب من المد والجزر، من الانقراض والانبعاث، مسكون بشحنة الاحتجاج، متناقض ومنطقي، معتم وصاف: كأنه الرمل وقطرة المطر.هكذا تتقاطع في صوته اصداء كثيرة: من هيراقليطس، وحتى العبثية مرورا بنيتشة وماركس،. لكنه يبقى غريبا اصيل النبرة والبعد،حتى ليصعب ان يوصف العربي الذي لايقرؤه بأنه مثقف أو بانه يحي
ا على هذه الارض.

يتابع ادونيس:

" عبد الله القصيمي في الفكر العربي حدث ومجيء: حدث لأن صوت هذا البدوي الاتي من تحت سماء المدينة ومكة، صوت هائل فريد. ومجيء لأن في هذا الصوت غضب الرؤيا والنبوءة..."


وفي هذه المقابلة يسأله أدونيس عن تهمة الهدم، فيرد عليه القصيمي:
ـ ان ما يقوله بعضهم من أنني هدام ، فإنني اقول لهؤلاء: عندما تتهمونني
بالهدم، وتقولون لي قف لا تهدم، فأنتم حينئذ تشبهون من يطلبون من الذين يقتلون الحشرات وجراثيم المرض ومنظفي المدينة، أن توقفوا عن أعمالكم، لأنها اعمال هدمية،

أنا
هدام، نعم، هدام. أهدم الخرافة، والغباء، والطغيان، والقبح، وتاريخ الالم.
وأعني بكلمة اهدم هنا احتج واصيح.


وعن هذا البدوي المار العابر في السماء العربية كنجمة تومض في عراء مفتوح،
قال انسي الحاج:

" اقرأوا القصيمي. لا تقرأو الان الا القصيمي. ياماحلمنا ان نكتب بهذه الشجاعة!


ياماهربنا من قول ما يقول! ياما روضنا انفسنا على النفاق، وتكيفنا، وحطمنا في انفسنا الحقيقة، لكي نتقي شر جزء مما لم يحاول القصيمي أن يتقي شر قوله. يهجم على الكلمة هجوم البائع الدنيا، وتقتحمك كلماته التي لا تتوقف اقتحام
الحريق ضد كل شيء ".


وحياة وموت هذا المفكر الذي قيل عنه اكثر من مرة لو ان الاجيال العربية درست القصيمي في المدارس لدخلنا عصر الحداثة، هي حياة وموت كل الاصوات المغردة خارج السرب أو المؤسسة...
والمؤسسة العربية وزعانفها عرفت بعد طول خبرة كيف تحمي نفسها من هذا المتمرد وأمثاله وكل سلالات العصيان إما بالإغتيال المادي، تصفية الجسد، أو بالإغتيال الرمزي اي تصفية الصوت، أو بالتشنيع الاخلاقي، وهذا الاخير ـ حسب المفكر ميشيل فوكو ـ هو شكل قديم من اشكال الاغتيال الاجتماعي القذر الذي يقوم لا على اخفاء الجسد ولا اخفاء الصوت، بل على التلويث والوصم، لكي يدخل في نسيج البشاعة العام.

مات عبد الله القصيمي ودفن سرا في الصحراء....
سرا جاء بدون توقع..
وسرا عاد بدون توقع..
وترك لنا الدهشة والانتظار...
انتظار ان يعود لنا يوما دون توقع من حافة هذه الصحراء، ومن قلب السراب،
حيث
لا نتوقع ظهور أحد.

ليست هناك تعليقات: