الجمعة، 12 ديسمبر 2008

حوار بين الله وأبو لهب !


(( روى الراوون أو تخيل القصاصون أن أبا لهب – ذلك الشريف القرشي الذي رفض الإيمان بالنبي فهجاه القرآن هو وزوجته في السورة المشهورة – استطاع بعد أن مات بأسلوب من أساليب التسلل أن يلقى الله وان يدخل معه أو ضده في حوار , فيه كل الإثارة والغرابة والقوة والجسارة في مكان تموت فيه كل الجسارات وتصمت كل الكلمات ويهون فيه كل العقل والشموخ . وقد جرى الحوار بينهما خاطفاً عاصفا منتصرا منهزما , كمعركة كونية رهيبة تقع بين الشمس والأرض .

قال أبو لهب :

يا الهي لماذا اخترت محمدا نبيا ولم تخترني أنا نبياً , ولست افهم أن في هذا نقضا لحكمتك أو استعلاء على قدرتك ؟ فرد الله قائلا :
لقد اخترت محمداً لأن فيه مزايا ليست فيك , قال أبو لهب:

لقد أجبت بما كنت أرجو وأتوقع أن تجيب به , إذن لقد وقعت أيها الإله العظيم في المأزق الذي أردته لك أو أردته أنت لنفسك . فمن الذي أعطى محمداً تلك المزايا التي جعلت منها أيها الكائن العادل سبباً لاختياره ؟ أليس الذي أعطاه إياها هو أنت يا الهي الكبير ؟


إذن لقد أعطيت محمداً مزية , ثم جزيته عليها بالنبوة , ثم جزيته على النبوة بان فضلته على العالمين , أما أنا فقد حرمتني من تلك المزية ثم عاقبتني على حرمانك لي بحرمان آخر , أي بأن منعت عني النبوة , وجعلتني كافراً , ثم جعلتني من أهل النار .


إذن لقد حابيت محمداً محاباة مبتدئة بلا سبب سابق , ثم جزيته على هذه المحاباة بمحاباة ثانية ثم ثالثة , أما أنا فقد ظلمتني مبتدئاً بلا ذنب أو استحقاق سابق , لان البدء هو أنت دائما , ثم جازيتني على ظلمك لي الأول بظلم ثان وثالث - انك بهذا تعاقبني بما فعلت أنت , وتثيب محمدا بما فعلت أنت أيضا . وقد كان ممكنا أن تفعل العكس يا إلهي , نعم كان ممكنا – وهذا لن يخفى عليك – أن تفعل لي ما فعلته له , وتفعل له أو به ما فعلته لي أو بي . وأي السلوكين حينئذ هو العدل والذكاء , وأيهما هو الظلم والغباء ؟ إن ها هنا ورطة محتومة لا يمكن الخروج منها , إن التفريق بيني وبينه في اختيارك وتصرفك شيء لا يمكن أن يكون معقولا أو عادلا ما دام البدء هو أنت دائما . انه محتوم عليك أن تفرق وتفاضل بين الأشياء المتساوية بلا أي سبب في نفس الأشياء , إن السبب هو أنت , فلماذا ؟

أيها الإله لقد حابيت محمدا ثلاث مرات لتتحول إلى محاباة دائمة , وظلمتني ثلاث مرات لتتحول إلى ظلم دائم – جزيته على المحاباة البادئة بتكرار المحاباة , وجزيتني على الظلم البادئ بتكرار الظلم , فأي شيء هذا أيها الرب العظيم ؟ أريد أن أشكرك أو أحاكمك إلى منطقك أو إلى أخلاقك أو إلى ملائكتك أو إلى البشر أنفسهم , لدى أية محكمة من محاكمهم أو قانون من قوانينهم . إن اختيار محمد لهذه المحاباة المبتدئة ظلم بقدر ما اختياري لهذا الظلم المبتدئ ظلم .


ولو انك وضعت قلبك علي منذ البداية ووضعت بغضك على محمد منذ البداية لكان شيئا معقولا بقدر ما كان العكس معقولاً , انك لن تستطيع أن تكون معقولا إلا بعمل ما به تكون غير معقول . وهذه ورطة لا بد أن يقع فيها كل الخالقين للأشياء من بدايتها , المستقلين بخلقها .

تقول القصة :

وهنا ازداد صوت أبى لهب وحماسه ارتفاعاً وفحيحاً وحشرجة صاعقة , بينما غمرت الإله الابتسامات التي فيها كل تعبيرات الشعور بالاقتناع والتواضع والاستحسان والحرج الباحث عن أي أسلوب من أساليب الاستغفار والتراجع الزاخر بالحياء الطيب النبيل . وقد قال بعد الإفاقة من الصدمة الهائلة بلغة فيها من النبل ما جعل الشموس ترتجف رهبة وحباً وحياء , وفي بعض الروايات أن الدموع هنا قد تسللت من قلبه إلى عينيه إلى خديه حتى لقد شعر أبو لهب بالرثاء والإشفاق على خصمه , وبأنه قسا عليه كثيرا :

اسمع يا بني , اسمع يا أبا لهب :

لقد صنعتك وصنعت محمدا وصنعت مبتدئا فضائلكما ورذائلكما بلا أي سبب منكما أو فيكما , وقد صنعتكما مختلفين لأن الاختلاف غرض من أغراضي وتدبير من تدابيري وضرورة من ضروراتي , فالاختلاف بينكما ليس عقوبة لأحدكما وتفضيلا للآخر . لقد خلقت الجنة والنار والحقول المثمرة والصحارى والنهر والبركان والأسد والفأرة , فهل أثيب هذا لأني خلقته افضل وأعاقب ذاك لأني خلقته أسوأ أو اقل ؟ بل العدل والمنطق أن افعل العكس , فالذي خلقته اقل مزايا يستحق عطفي وجزائي اكثر من الذي خلقته افضل أو أقوى أو اعظم مزايا لأني قد ضحيت به وقبل التضحية بفدائية صابرة .


فأنت إذا يا أبا لهب جدير أن تنال من الثواب والإعجاب لدي اكثر مما يجب أن ينال محمد , لان حكمتي قد ضحت بك واختارت أن تجعل منك فدائيا يتعذب لكي يكون عذابه متمما لمنطقي في هذا الكون , وواهبا لي سروري وشهواتي . ولو أنى عاقبت بعض مخلوقاتي أو فضلت بعضها على بعض في الثواب أو الحب لكنت معاقباً لنفسي ومفضلاً بعضها على بعض , لو أنى عاقبت إبليس أو أعطيت محمداً أو موسى من الأجر ما لم أعط أو أكثر مما أعطي فرعون أو أبا لهب الذي هو أنت لكنت بذلك معاقباً لبعض ذاتي بالعدوان على مخلوقاتي ومفضلاً لبعض منطقي وحكمتي على بعض , ومحولاً هذا العقاب والتفضيل إلى عقاب وتفضيل لبعض الناس والى تحقير للآخرين .

أي أبا لهب , أيها الصديق :

إني لن أعذب أحدا لأني جعلته مختلفا عن الآخرين أو مخالفا لهم , كما إني لن أعذب القمر لأني جعلته مختلفاً عن الشمس , أو أعذب الصرصار لأني أردت أن يكون أصغر من الفيل , أو أعذب صفاتي لأن بعضها جاء أقوى أو أفضل من بعض , كما إني لن أعذبك لأني لم أهبك المزايا التي حابيت بها محمداً , بل لن أسوي بينكما في المكان عندي , بل سيكون مكانك أعلى وأجمل لأنك قد تعذبت وظلمت في سبيلي , في سبيل تحقيقي لذاتي . فمن العدل أن تنال التعويض .

أما محمد فلم يتعذب عذابك في سبيلي , بل لقد نال المجد والتفضيل بلا سبب منه أو فيه , بل بإرادتي التي لا سبب لها غير إرادتي .

إني أريد لأني أريد , لا لأن ما أريد أفضل مما لا أريد . وكيف يمكن أن يكون شيء أفضل من أي شيء مع أني أنا الكائن قبل كل شيء ؟ فالكينونة كلها مني وبعدي , بل وأنا الذي أختار أن يكون شيء أفضل من شيء . إن العدل ألا يكون محمد مساويا لك في مكانة المكان في دار الجزاء , ليس من العدل أن يكون من ضحي به مثل مكان من ضحي بالآخرين من أجله , أو من جعل الآخرون وجعل شقاؤهم وقوداً لمجده , وحسابات في شهرته , وصلوات على قبره .

إذن أيها الصديق , أي أبا لهب :

اذهب وابحث لك عن مكان في ملكوتي أعلى من مكان محمد – أيها الصديق , أيها الفدائي العظيم في سبيل إرادتي التي لا أعرف كيف تفرض نفسها علي , وكيف تعذبني وتتحول إلى تعبيرات على الآخرين لا أدري كيف تتحول , وبأي منطق تتحول , وعلى أي قياس تفعل ذلك .

قالت القصة :

وهنا ضجت الملائكة قائلين : كلا , كلا أيها الرب الطيب , إن هذا سيغري بالفساد ويجعل الناس يرفضون الإيمان والاستقامة , إذ لا شيء حينئذ يخافونه أو يرجونه بالاستقامة والإيمان .

فرد الله عليهم قائلاً – وكأنه يفشي سره لأول مرة في التاريخ :
أي ملائكتي ومستشاري عرشي الطيبين , وهل الناس يؤمنون أو يفعلون الفضيلة خوفاً من العذاب أو بحثاً عن الثواب – أو هل يكفرون أو يفسقون رفضاً للثواب أو جهلاً أو إنكارا للأيمان به ؟ إن الناس يفعلون هذا أو هذا بحثاً عن التلاؤم مع أنفسهم ومع ظروفهم , وخضوعاً لظروفهم .

إن الإيمان بالعقاب والثواب لن يصنع الناس , وإن إنكار الثواب والعقاب لن يهدم الناس , إن الناس يفعلون الشيء أو نقيضه كما يحبون ويبغضون , إن تصرفاتهم ضرورات أو استجابات ذاتية .

وينبغي ألا ينزعج المؤمنون من الدخول في حوار ضد الإله أو مع الإله مهما كان أليما أو رهيباً فالحوار ضد سلوك الإله ومنطقه مشروع .

إن أول من مارسه هم أول من خلق من الكائنات العاقلة وأقربها إليه وأكثرها معرفة وحظوة عنده – أولئك هم الملائكة وإبليس . وكان موضوع محاورتهم آدم , فالملائكة قالوا – رافضين لمنطق الإله وسلوكه وإرادته - :

(( أتجعل فيها – أي في الأرض – من يفسد فيها ويسفك الدماء )) . وهذا أقوى حوار ضد الإله يصوغه ويوجهه إليه مؤمن , بل أكبر وأفضل مؤمن يعيش معه . أما إبليس – وهو من الملائكة أو سيدهم أو كان معهم – فقد رفض حكمة الإله وأمره القاضيين بالسجود لآدم , ورأى في ذلك خطأ يوجب الاعتراض عليه ومجادلته وإعلان العصيان العقلي له بأسلوب عالمي . ولم ير الله أن يخفي هذا العصيان العقلي عن الناس , بل لقد حوله إلى منشور دائم تقرؤه كل الأجيال في كل العصور , وتصلي به في عبادتها .

وكأن الإله قد أراد أن يعبر أقوى تعبير عن إعجابه بحوار الملائكة وإبليس ضده ومعه , ذلك بأن وهبهم – أي الملائكة وإبليس – الخلود , وزاد إبليس تكريماً لأنه كان أقوى حواراً ضده فجعله منتصراً عليه وأكثر منه اتباعاً !

لقد أراد أن يكافئه أكثر لأنه قد حاوره بأسلوب أعنف !

ومن المحتوم أن يمل الله الامتداح المنافق الدائم , وأن يسعد بالحوار ضده , ولعل الذين يمارسون هذا الحوار هم أقرب إلى قلبه من جميع الراكعين بأعضائهم وأفكارهم تحت قدميه .

ليست جميع الأشياء إلا حواراً مستمراً ضد السلوك الإلهي , فكل العبث والآلام والمظالم والأخطاء والتفاهات التي يعيشها كل شيء حوار مستمر ضد هذا السلوك ولكن بلغة أخرى غير لغات الإنسان!

إن المريض والبليد والتافه والظالم هم اكثر حواراً ضد منطق الإله وأخلاقه من جميع الزنادقة , بل اكثر حواراً ومعارضة للإله من إبليس الذي رفض السجود حينما أمره الله به !

وهل يمكن أن يكون الواقف فوق أعلى منبر في العالم يعلم ضد الله أكثر هجاء له من طفل مقعد يرى الأطفال يتقافزون أمامه فيصعد بقلبه ونظراته إلى السماء والى أبويه : لماذا أنا وحدي , دون أن يجد جواباً !

إني لو كنت إلهاً لوجدت في الأعمى الذي يحاول أن يبصر طريقه بعصاه احتجاجا علي أقوى وأقسى من أن تتجمع كل لغات العالم وبلاغاته وأفكاره لتتحول إلى احتجاج واحد دائم مركز يصوغه كل ما في التاريخ والكون من غضب ضدي !

وإذا كانت الطبيعة مكان الله فان كل ما فيها من جمال يتحول إلى دمامة وهجاء حينما تعرض شيخاً متهدماً لا يستطيع أن يعيش , ولكنه يرفض أن يموت , أو برغوثاً يموت من الجوع والوحدة لأن الإنسان يرفض أن يطعمه من دمه , أو يؤويه إلى فراشه , والطبيعة لم تدبر له غذاءه وسكنه قبل أن تخلقه .

إن عواء الحيوان ألماً لهو أقوى حوار ضد الطبيعة أو ضد الإله , وان مثل هذا العواء ليسخر من جميع الصلوات في جميع المحاريب , ومن جميع الشعر والموسيقى في تمجيد الطبيعة !


مقتبس من كتاب عبدالله القصيمي " هذا الكون ما ضميره "